لاشىء يستطيع التأثير في بناء النفوس , أو تحويل مسارها , أو إقامتها بعد انحرافها مثل الاعتقاد الذي قدمه الإسلام للمؤمنين , ذلك إنه قد قدم لهم نموذجا متكاملا من الصوابيات الحقة والعلم اليقيني التام , المدعوم بالآيات الباهرات , وقدم لهم الغذاء الروحي والدعم القيمي والفهم المستقيم بما يستطيع أن يغير طبيعة النفوس , فيذهب فسادها ويستدعي منها كل كريم.
والعقيدة الإسلامية هي مبدأ كل شىء في التعاليم الربانية التي يوجهها الإسلام إلى المؤمنين به , ومن صلحت عقيدته صلح عمله , ومن فسدت عقيدته خاب عمله , بل إن الهدف الأول والأسمى من دعوة الرسل والأنبياء هو سلامة الاعتقاد في قلوب الناس , إنهم يدعون إلى تلك العقيدة الرائعة مخلصين تماما لربهم في دعوتهم غير مبالين بأجر ولا بمنفعة عائدة , ويبذلون في سبيل دعوتهم لها كل ما يملكون.
وبالفعل قد تغيرت بتلك العقيدة الإيمانية العظيمة نفوس واستقامت نفوس وتطهرت نفوس , بل صار بتأثيرها كثير من الضالين مهديين وكثير من الجاهلين نافعين مصلحين , بل إن الذين عرضت عليهم تلك العقيدة الطاهرة فلم ينتفعوا بها , ولم ينتموا إليها إنما منعهم كبر في نفوسهم وأمراض في قلوبهم غلت فهمهم وغلفت عقولهم فصاروا لايميزون بين الحق والباطل.
ولو حاولنا أن نتدبر بعض آثار تلك العقيدة الإيمانية الكريمة , لوجدناها تعيد البناء المتهدم من النفس البشرية , وتبصر عينها بماخفي عنها من سواء الصراط..
إن التحرر من العبودية لغير الله عز وجل لهو الخطوة الأولى والدفعة الأقوي في سبيل التغلب على قياد النفس وهواها ومن ثم الانطلاق نحو الحياة في مصاف الصادقين أصحاب التضحيات العظام فلا خضوع حينئذ لبريق شهوة ولا خنوع لسطوة قوة أرضية مهما غشمت فالحياة حيئذ تكون لله وحده والنفس تكون عبدة مخلصة لباريها ترى سعادتها في إنفاذ أمره وتستشعر خلودها في الفناء في سبيل مرضاته..
أما الذين يسترقون أنفسهم بدراهم ماتزال أن تنتهي ومراكز ما تلبث أن تخلو وقصور ما تلبث أن تخرب.. فاولئك هم العبيد المسترقون لعدوهم المستذلون لأنفسهم عليهم شعار الخيبة ودثار المهانة ولما عرف العدو هؤلاء المرضى، وأدرك ما يعبدون من الشهوات، عرض عليهم قسطا وافرا منها، فأسال لعابهم، فساومهم على مبادئهم وقيمهم وعلى أوطانهم وأمتهم بل على أهلهم وأعراضهم، فدفعوها أثمانا لما يطلبون فاتخذ منهم عملاء وخونة وجواسيس، وفرض عليهم مناهج وشروطا، فأطاعوه مقابل ما يضمن لهم من الهوى.
ففي إحدى المعارك مع الروم قال بعض المسلمين: إنه قد حضركم جمع عظيم من الروم ونصارى العرب، فإن رأيتم أن تتأخروا، ويكتب إلى أبي بكر، فيمدكم، فقال هشام ابن العاص رضى الله عنه: إن كنتم تعلمون أنما النصر من عند العزيز الحكيم، فقاتلوا القوم: وان كنتم تنتظرون نصرا من عند أبي بكر، ركبت راحلتي ألحق به، فقالوا: ما ترك لكم هشام بن العاص مقالا: فقاتلوا قتالا شديدا، وهزم الله الروم، فمر رجل بهشام وهو قتيل فقال له: رحمك الله هذا الذي كنت تبغي!
وفي يوم مؤته كان المسلمون ثلاثة آلاف رجل، ولما وصلوا إلى معان (بلدة في جنوب الأردن) بلغهم أن هرقل نزل في مائة ألف جندي من الروم، وانضم إليه من نصارى العرب مائة ألف آخرون، فقال بعض المسلمين: نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نخبره بعدد عدونا، فإما أن يأمرنا بأمره، فنمضي له، فقام عبد الله بن رواحه ـ رضي الله عنه ـ وخطب الناس فقال: يا قوم: والله إن كان التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون، إنها الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا، إنها إحدى الحسنيين، إما ظهور وإما شهادة، فقال الناس: قد والله صدق ابن رواحه.
روى ابن إسحاق عن معاذ ابن عمرو ابن الجموح قال: سمعت القوم وهم يقولون: أبو الحكم لا يخلص إليه، فجعلته من شأني، فصمدت نحوه، فلما أمكنني حملت عليه، فضربته ضربه قطعت قدمه بنصف ساقه، وضربني ابنه على عاتقي فطرح يدي، فتعلقت بجلدة من جنبي، وأجهضني (أي غلبني واشتد عليه) القتال عنه؛ فلقد قاتلت عامة يومي، وإني لأسحبها خلفي، فوضعت عليها قدمي، ثم تمطيت عليها حتى طرحتها... (فانظر ماذا فعلت قوة الروح في هذا الرجل، حتى تخلى عن ذراعه بتلك الطريقة التي ذكرها، ولم يمنعه الألم ونزف الدم من مواصلة القتال؛ حيث غطت قوة يقينه على كل ألم)
كذلك فالمؤمن الذي أيقن في أن رسوله قد جاء بالهدى والنور لهذه البشرية فأحبه حبا اكتمل معه إيمانه فصار أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين.. كان سعيه في الإقتداء به سعي الصادقين.. فإذا بالحياة في الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم كلها نور وحبور وصلة بالأرض للسماء وغدا الكون كله جنديا معه يكافح ويناضل في صفه.. ولما كانت شخصية النبي صلى الله عليه وسلم قد اكتملت كشخصية قيادية نموذجية كان في الاقتداء بها خطوة كبرى على طريق القيادة الناجحة المنجزة.. التي تجمع بين رضا الرب سبحانه وفهم الناس وحسن القرار ونبل الهدف وإخلاص السلوك.. ولقد بينت لنا السير كيف كان حرص قادة هذه الأمة الأوائل على اقتفاء أثر النبوة في قيادتهم للبشرية في كل حين ووقت.. حتى إن أحدهم ليقيم مدى نجاحه وفشله بمدى تطبيقه لأوامر نبيه صلى الله عليه وسلم ونواهيه وأخذه وعطائه وإقدامه وإحجامه..
ثم هاهو ذاك المؤمن يحيا متيقنا بالحياة الآخرة يقينا لا غبش فيه ولا شك , تتغير حياته تغيرا إيجابيا يكاد يرفعه إلى مصاف الصالحين فور إيمانه بذلك.. ذالك أن الذي يعيش منتظرا النهاية والموت في كل حين يعيش معدا لها.. والذي يحب الجنة لاشك يبذل لها.. والذي يخشى النار لاشك يهرب منها.. لذا كان عجب السلف الصالحين أكثر ما يكون ممن (أيقن بالجنة ولم يفر إليها وأيقن بالنار ولم يهرب منها)
إن عقيدة المؤمن الراسخة لتشده إلى الحياة الروحانية في ظل وارف من ظلال الجنة و يستهين في الحياة فيها بزخرف الدنيا ومتاعه ويستصغر كل زينة فيها لمل يقارنها بموعود صادق من ربه له في الآخرة... وإذا كان المسلم بالشهادتين ينطلق ويندفع إلى التضحية، فإن عقيدته وتصوره عن الآخرة تشده إلى العطاء الدائم شدا، وتملأ قلبه بالشوق إلى الشهادة، لأن هذه العقيدة تعرفه على حقيقة هذه الدنيا، وقيمة متاعها، وأنها ليست سوى مرحلة من مراحل وجوده، وممر ووسيلة إلى مرحلة نهائية، فيها القيم الخالدة، والتجارة الرابحة، والفوز الحقيقي.
يروى عن صلاح الدين الأيوبي أنه كان يحمل معه صناديق مقفلة في أيام جهاده، وكان يحرص عليها أعظم الحرص، ويرعاها أشد الرعاية، وبعد وفاته فتحت هذه الصناديق فوجد الذين فتحوها أنها تحوي وصية صلاح الدين وكفنه وكمية من التراب من مخلفات ايام جهاده.. فانظر الى حياة القائد المنتصر كيف يراها موصولة في سبيل الله أرضها وسماءها , موتها وحياتها..
ورد عن أم حارثة سراقة أنها أتت النبي صلى الله وسلم فقالت: يا نبي الله، ألا تحدثني عن حارثة ـ وكان قتل يوم بدر بسهم ـ فإن كان في الجنة صبرت، وإن كان غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء؟ قال: يا أم حارثة، إنها جنان في الجنة، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى. فانظر إلى هذه الصحابية الجليلة كيف استقر في قلبها أن الخسران الذي يستحق البكاء هو فوات الجنة، بعدم إحراز الشهادة.
وروى البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: لما طعن حرام بن ملحان، قال بالدم هكذا، فنضحه على وجهه ورأسه، وقال: فزت ورب الكعبة. و أن الذي قتله جبار بن سلمى الكلابي. قد سأل ما قوله فزت؟ متعجبا.. قالوا يعنى الجنة فقال: صدق الله، ثم أسلم!!
والإيمان بالقدر يغير النفس أيضا من نفس خائفة وجلة مهتزة مترددة الى نفس واثقة مطمئنة ثابته فتصلح حينئذ لتلقي مهام القيادة ويلتف حولها الناس مستلهمين منها اليقين تطبيقا لا قولا , ويراها الجميع أجدر ما تكون بالقيادة.. فالإيمان بقضاء الله يحطم الحواجز المثبطة للإنسان عن البذل والعطاء ويقتل الخوف على الرزق أو النفس مادام ذلك لله.. روى أصحاب السنن قول النبي صلى الله عليه وسلم " لايمنعن أحدكم مخافة الناس أن يقول بحق إذا رآه أو سمعه فإنه لايقرب من أجل ولايباعد من رزق "..
فبالإيمان بقدر الله عز وجل في الآجال والأعمار وأسباب انتهائها يتحرر المؤمن من الخوف من الموت؟، والخوف على الحياة، حيث آمن أن الله عز وجل هو الذي يحيي ويميت، وأن أسباب الموت والحياة بيده سبحانه، وأن لكل مخلوق لحظة محددة في علم الله عز وجل يخرج فيها من هذه الدنيا، مهما اتخذ لنفسه من وسائل الحماية والوقاية.
وقد أنكر الله سبحانه على الذين يظنون القعود الكسل والخنوع مهربا من الموت قال عز وجل " وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزي لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا، ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم، والله يحيي ويميت، والله بما تعملون بصير ".
إن المؤمن إذا أحيا في نفسه هذه المعاني اليقينية السامية انطلق في الرحاب بنورانية لم تسبق وشجاعة لم يعتادها الدنيويون..
الكاتب: خالد رُوشه
المصدر: موقع المسلم